من المستشفيات إلى المقابر.. لماذا يطالب المجتمع الدولي بتعزيز المراقبة في ليبيا؟
من المستشفيات إلى المقابر.. لماذا يطالب المجتمع الدولي بتعزيز المراقبة في ليبيا؟
أثارت كلمة لجنة الحقوقيين الدولية خلال الحوار التفاعلي في اجتماعات الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان بجنيف حول تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بشأن التعاون التقني في ليبيا موجة جديدة من الانتباه الدولي إلى حجم الانتهاكات الجسيمة المستمرة داخل البلاد، والدعوات إلى إنشاء آلية رصد مستقلة وأكثر صرامة، وربما تعيين مقرر خاص لحقوق الإنسان في ليبيا.
وجاءت توصيات اللجنة استجابة لحقائق جنائية وإنسانية صارخة أُثبِتت ووُثّقت في تقارير أممية ومحلية خلال الأشهر الأخيرة، وتضع أمام المجتمع الدولي سؤالاً واضحاً عن كفاية الأدوات الراهنة لمحاسبة الجناة وحماية الضحايا وفق لجنة الحقوقيين الدولية.
الوقائع الميدانية
الوقائع الميدانية التي استندت إليها هيئة الخبراء الدولية مروّعة، فمنذ اعتماد قرار مجلس حقوق الإنسان 56/16 عُثِر على عشرات الجثث مجهولة الهوية في ثلاجات مستشفيات مثل أبو سليم والخضراء، في حين تسرّب مقطع فيديو يُظهِر نائب البرلمان، إبراهيم الدرسي، مقيّداً وتظهر عليه آثار تعذيب بعد فقدانه، كما شهدت مناطق عدة موجات من القتل خارج نطاق القضاء، وتصاعداً في الأعمال العدائية بين ميليشيات مسلحة أدت إلى سقوط مدنيين، وهذه العناصر تُشكّل نمطاً متواصلاً من الانتهاكات التي تستهدف بالذات النساء واللاجئين والمهاجرين والأقليات.
تفجُّر تلك الحقائق دفعة واحدة كشف هشاشة آليات المساءلة المحلية. وتُظهر نداءات الأمم المتحدة لفتح تحقيقات مستقلة وحماية الأدلة الجنائية وفتح ممرات للتحقيقات الجنائية أن وجود تشتت في السلطات وسيطرة فصائل مسلحة على مرافق احتجاز أسهما في إفلات واسع من العقاب، كما أكدت عمليات اكتشاف مقابر جماعية ووجود أدلة تعذيب دعمتها مطالبات بعثة UNSMIL والهيئات الأممية بضرورة تمكين فرق قانونية وطبية للقيام بإجراءات تشريعية وفنية موضوعية لحفظ آثار الجرائم وضمان تعقب مرتكبيها.
الانعكاسات الإنسانية
رغم إعلان أجزاء من النظام الليبي تقبّل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية أو التعاون معها في مناسبات، فإن تنفيذ هذا التعاون ظلّ متعثراً. وثمة حالات لمشتبه بهم مطلوبين بموجب مذكرات توقيف صادرة عن المحكمة لم تُسلَّم بعد، وحالات أخرى شهدت تردداً أو إجراءات إقليمية متضاربة حول ملاحقة شخصيات متهمة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ويضيف ذلك بُعداً دولياً للأزمة: فغياب تسليم المشتبه بهم أو عدم تعاقد الأجهزة الوطنية مع إجراءات محكمة دولية يقود إلى استمرار الإفلات من العقاب.
الانعكاسات الإنسانية أوسع من الاستهداف المباشر؛ فليبيا تظل مركز عبور رئيسياً للمهاجرين واللاجئين، وتتكرر حالات الاحتجاز التعسفي والتعذيب ضد هؤلاء، إلى جانب حوادث غرق جماعية في البحر المتوسط وتظهر بيانات المنظمات الإنسانية أرقاماً كبيرة للمهاجرين الموجودين في ليبيا والمحتجزين وغير المسجلين، وموجات نزوح داخلية واستمرار معاناة آلاف الأسر من فقدان ذويها أو من المستقبل المجهول، وتزيد هذه الصورة ضغوط المجتمع المدني المحلي وتضع المنظمات الإنسانية في مواجهة مع قيود أمنية وتهديدات مباشرة لعاملين إنسانيين.
ردود الفعل الحقوقية
منظمات كبرى مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية ندّدت بمظاهر القمع والتعذيب وغياب المساءلة، ودعَت الدول الأعضاء إلى الضغط على السلطات الليبية لفتح تحقيقات فعالة، وتمكين دخول فرق دولية متخصصة، وحماية الشهود. في المقابل، أوصت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بمواصلة تقديم المساعدة التقنية للدولة الليبية، مع تأكيد ضرورة وجود آلية رصد مستقلة تضمن سلامة التحقيقات والمساءلة، وفي هذا السياق طالبت لجنة الحقوقيين الدولية بأن يتحول التعاون التقني إلى جهد متكامل يتضمن أيضاً إنشاء آلية متابعة دولية أو مقرراً خاصاً لتقوية المراقبة.
بعد 2011 انهار الجهاز الأمني والقضائي المركزي في ليبيا وتجزأت مؤسسات الدولة، ما خلق واقعاً تُسيطر فيه مجموعات مسلحة ومصالح محلية على ممرات القوة والموارد، في مقدمها السيطرة على موانئ ومرافق حيوية، وهذه التجاوزات جعلت كثيراً من أدوات دولة القانون والمعرفة الجنائية ضعيفة أو غير فعّالة، ما يفسّر لماذا التحرك المحلي وحده لم ينجح طويلاً في تحقيق المساءلة عن الجرائم الكبرى، إن إرجاع الثقة في القضاء وفصل السلطات وإصلاح جهاز العدالة شرط لا بديل عنه للحد من الإفلات من العقاب.
على المستوى العملي، يتطلب التصدي لهذا الواقع عدة خطوات متناسقة أولها تمكين آليات تحقيق مستقلة تحفظ الأدلة وتستخدم معايير جنائية وطبية لربط مرتكبي الانتهاكات بالمواقع والأحداث، مع حماية الشهود والضحايا، وثانياً، ضرورة تعاون دولي فاعل يشمل تبادل معلومات استخباراتية وقانونية، وتسهيل تسليم المشتبه بهم إلى محاكم دولية حين تتعذر المساءلة المحلية، وثالثاً، إنفاذ برامج بناء قدرات فعالة تقوم بتحصين النيابات العامة والنيابات العسكرية والقضاء؛ وهذا ما دعت إليه مفوضية حقوق الإنسان ولجنة الحقوقيين الدولية ضمن توصياتها.
بيان لجنة الحقوقيين الدولية ليس مجرد وثيقة إدانة؛ بل هو نداء عملي لتحويل التعاطف الدولي إلى آليات ملموسة للإنصاف، وكشف المقابر الجماعية، ومقاطع الفيديو التي تُظهِر أشخاصاً مُعذّبين، ورفض التعاون الكامل مع آليات العدالة الدولية، فكل ذلك يجعل من ليبيا حالة اختبار للمجتمع الدولي: فإما أن يتحول الاتفاق التقني إلى عمل متدرج قائم على حفظ الأدلة والمساءلة، أو أن تبقى الضحايا دون عدالة، والجرائم بلا عقاب، في حين تتواصل دائرة المعاناة للمدنيين الأكثر هشاشة.